أسعد أبو خليل

السبت 7 كانون الأول 2024

شارك المقال

ملاحظات نقدية على اتفاق وقف النار: السقطة [1]


يفتقر حزبُ الله في تاريخه إلى خبير في القانون الدولي؛ وعليه فقد وقع ضحيّة خِدَعٍ وحِيَلٍ من أعدائه وبمشاركة من خصومه الداخليّين (مثل السنيورة و14 آذار في حرب تمّوز). الخديعة الكبرى كانت عندما صدّق الحزب أنّ هناك «محكمة ذات طابع دولي» وأنّها غير دوليّة. هذه المحكمة هي النافذة الأهم في اختراق الحزب من الداخل وتجميع معلومات عن أعضائه وقياديّيه. الحزب اليوم ليس في وضْع صحّي وسليم بعد الكارثة التي حلّت به، وهو صمد بصورة أسطوريّة خلال الأشهر الماضية رغم وحشيّة العدوان الأميركي-الإسرائيلي عليه. يعيش الحزب تحت النار منذ انتصاره في 2006، والانتصار في الصراع مع العدوّ أصعب بكثير من الهزيمة. لا يكفُّ العدوّ (مع حلفائه الأشرار في الغرب) شرَّه عنك لو انتصرتَ عليه. هو أعدّ خططاً للنَّيل من الحزب منذ ذلك التاريخ، ونصب الكثير من الفِخاخ على مرّ السنوات، والحزب تجنّب بعضها ووقع في البعض الآخر. مناسبة الكلام هو اتّفاق وقف النار الأخير، وهو يعوّل على مضمون اتفاق 1701. لبنان ليس بلداً سهلاً لو أنتَ أردتَ أن تقارع المُحتلّ: تعلم أنّك تصارع إسرائيل أو الاستعمار الغربي، ونصف الشّعب اللبناني (أو أكثر كي نكون منصِفين) يناصرون العدوّ ويتمنّون النصر له على أعدائه العرب (لبنان بلد شنيع: كان بعض راكبي حافلتي المدرسيّة يكرهون الملاكم محمد علي كلاي لأنه أسلمَ - وهذا في مدرسة تزهو بنخبويّتها). في 2006، وضع السنيورة جملة من النقاط في مؤتمر روما، لكنّ ديفيد هيل في كتابه الأخير فضح السنيورة إذ قال إنّ مطالب السنيورة منقولة أو مستورَدة أو مستوحاة من المطالب الأميركيّة التي هي مستقاة من أوامر اللّوبي الإسرائيلي. أي إنّ السنيورة، مصادفةً، استوحى مطالب إسرائيل ووضع دمغة لبنانيّة عليها. الاتّفاق كان سيّئاً في 2006 لكنّ الحزب القوي عرف كيف يتحايل عليه، خصوصاً والعدوّ ضرب رقماً قياسيّاً (حتى بالنسبة إليه) في خرق الاتّفاق. ليست كليشيه عندما نقول إنّ هذا عدوّ لا يحترم المواثيق والعهود والاتّفاقيات، والذي يصدّق التزامات العدوّ لا يكون قد قرأ عن تاريخ الصهيونيّة.


ما هي الملاحظات على اتّفاق وقْف النار الأخير؟ هاكم بعضها:
أولاً، يفضّل العدوّ، مرّة أخرى كما في 2006، صيغة «وقْف الأعمال العدائيّة» على صيغة وقْف النار أو هدنة أو وقْف الحرب. والتنبّه إلى صيَغ الكلام غائب أحياناً عن المفاوض العربي (لم يكن عند فريق مفاوضي عرفات خبير في القانون الدولي). وافق العرب على اتّفاق 242 رغم صيغة «الانسحاب من أراضٍ» (وليس الأراضي). تقول إسرائيل بوقف الأعمال العدائيّة لأنّها تريد استمرار صيغة حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل؛ لأنّها تسمح لها بالعدوان متى شاءت. لهذا إنّه من المضحك أن يطالب جنبلاط والبطريرك الراعي (المُحايِد الذي يريد السلام والأمن لإسرائيل) بتطبيق اتّفاق الهدنة. متى احترمت هي اتّفاق الهدنة وكانت تفرض شروطاً وأوامر على الجيش اللّبناني في كلّ السنوات التي سبقت الحرب الأهليّة (وحتى في سنوات الحرب حتى مجيء إميل لحّود، الرئيس الوطني الوحيد في تاريخ لبنان)؟ اتّفاق الهدنة لم يمنع إسرائيل مِن قصف طائرة مدنيّة في 1950، ومِن قصْف مضخّة مياه على الوزّاني في 1964 ومِن خطْف رعاة وقَتلِهم في الجنوب وزرع متفجّرات في نواحٍ مختلفة من لبنان.
ثانياً، ما كان على لبنان أن يقبل صيغة الاجتماع الثلاثي في الناقورة والاعتراف بـ«حكومة إسرائيل» في اتّفاق الحدود البحريّة. هذه صيَغ تفرضها أميركا على لبنان وعليها مترتّبات قانونيّة. كان على لبنان أن يصرّ على منْع الاجتماع المباشر مع العدوّ وعلى عدم الموافقة على أيّ صيغة نصّية تتحدّث عن حكومة إسرائيل. في الاتّفاق الأخير هناك نصّ عن «دولة إسرائيل» و«جمهوريّة لبنان». كان يمكن للبنان أن يتحفّظ في نصّ مرفق على النصّ والإصرار على الإشارة إلى «دولة الاحتلال والإبادة والعنصريّة الإسرائيلية».
ثالثاً، تحدّث الاتّفاق عن «نهاية مستدامة» للأعمال العدائيّة. صيغة المستدامة يجب أن تكون مرفوضة لأنّها حيلة تريد إسرائيل أن تدخل منها لتسويغ أعمالها العدائيّة في المستقبل. تستطيع أن تقول: الوقف الحالي للنار ليس مستداماً وعليه يجب أن أقوم بعمليّات قصْف وقتْل هنا وهناك. أو كان يمكن لجمهوريّة لبنان أن تفرض تعريفاً للعبارة وألّا تتركها لأميركا وإسرائيل كي تفعلا بها ما تشاءان.
رابعاً، ويفرض الاتّفاق قيام الطرفَيْن «بخطوات لنشر شروط من أجل حلّ نهائي وشامل». هذه صيغة خبيثة وشنيعة لأنّها تجرّ لبنان للموافقة على حلّ شامل ونهائي فيما ليس هناك من حلّ نهائي وشامل بيننا وبين العدوّ حتى زوال الدولة الاستيطانيّة من أرض فلسطين. والصيغة هذه تجعل لبنان يخطو خطوات ثابتة نحو حلّ منفرد، على غرار الدول العربيّة التي طبّعت مع إسرائيل. إنّ أيّ حلّ يجب أن يكون جزئياً ومؤقّتاً لأنّ صراعنا مع إسرائيل غير محكوم فقط بالحرب الأخيرة أو بأيّ حرب سابقة. الحلّ الدائم مع إسرائيل يعني قبولنا بها وباحتلالها، خصوصاً أنّ لبنان وافق على الصيغة فيما لا تزال إسرائيل تحتلّ أراضيَ لبنانيّة (مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر - كم هو طريف عندما يتطوّع ساسة لبنان لمنْح إسرائيل هذه الأراضي بحجّة أنّها سوريّة. لماذا لا نقول لإسرائيل: إنّ لبنان أرض سوريّة أيضاً وعليه يمكن لكِ أن تحتلّي لبنان من شماله إلى جنوبه)؟

كيف يمكن أن يوافق لبنان على اتّفاق يشمل إسرائيل يتحدّث عن «نزع سلاح كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان»؟ هذه سابقة. تخيّل: لو أنّ لبنان فرض في الاتّفاق شرطَ: ضرورة نزْع سلاح المستوطنين


خامساً، كيف يمكن أن يوافق لبنان على اتّفاق يشمل إسرائيل يتحدّث عن «نزع سلاح كلّ المجموعات المسلّحة في لبنان». هذه سابقة. تخيّل: لو أنّ لبنان فرض في الاتّفاق شرطَ: ضرورة نزْع سلاح المستوطنين اليهود في فلسطين المحتلّة. كيف وافق لبنان أن يكون لإسرائيل رأي في مجموعات مسلّحة في لبنان؟ خصوصاً أنّها نشأت لطرْد المُحتلّ الإسرائيلي من أرض لبنان. وهذا الأمر يجرّ الكثير: أي إنّ لبنان سمح لإسرائيل في اتّفاق متعدّد الأطراف أن تتدخّل في شأن لبناني سيادي محض من دون أن يكون لبنان قد أصرّ على شرط موازٍ يُفرض على إسرائيل. أي إنّ لبنان وافق أن يكون الطرف الضعيف الذي يسمح لعدوّه بفرض الشروط عليه.
سادساً، كيف يمكن لاتّفاق يشمل إسرائيل وأميركا بأن يسمّي بالاسم من يحقُّ له حمْل السلاح في لبنان؟ لقد سمّى الاتفاق بالاسم كلّ الأجهزة التي تسمح لها إسرائيل وأميركا بحمْل السلاح. هذا البند مستقى من اتفاق 17 أيّار. كيف يمكن أن لا يرى المفاوض اللّبناني هذه السَّقْطة الفظيعة. ليس هناك اتفاقات بين الدول تقوم فيها دولة بالإملاء على أخرى شروط التسلّح وحقوقه داخل تلك الدولة. لبنان لم يستسلم والمقاومة فيه لم تستسلم (والعدوّ كما يتسرّب اليوم هو الذي أراد وقف النار) لكنّ هذا الاتفاق هو بين طرف منتصر وآخر مُستسلم. الحزب لم يستسلم وصمد حتى اللّحظة الأخيرة لكنّه قبِل بشروط ستتناقض مع إعلانه عن انتصاره في الحرب (هذه المسألة تحتاج إلى نقاش آخر منفصل).
سابعاً، البند الثاني يفرض على حكومة لبنان «منع حزب الله وكل المجموعات المسلّحة الأخرى من القيام بأيّ عمليّات ضدّ إسرائيل» لكنّه يقول إنّ إسرائيل، في المقابل، «لن تقوم بأيّ عمليّات هجوميّة ضدّ أهداف لبنانيّة، بما فيها المدنيّة والعسكريّة وأهداف أخرى للدولة». ملاحظتان حول البند: (1) يحصر التزام إسرائيل بوقف الأعمال الهجوميّة، أي إنّه يُسمح لها إلى ما لا نهاية بالقيام بعمليّات تسمّيها هي دفاعيّة. وكلّ حروب إسرائيل وعدوانها مصنّف منها بأنّه دفاعي محض. أي إنّ لبنان اعترف بحقّ إسرائيل في الاعتداء عليه بحجّة الدفاع. (2) تعترف إسرائيل ضمناً في هذا البند بأنّها كانت تضرب أهدافاً مدنيّة إذ إنّها تتعهّد بوقف الاعتداء على أهداف لبنانية «بما فيها المدنيّة». ليس من دولة متوحّشة غير إسرائيل لا تمانع في الاعتراف باستهدافها للمدنيّين.
ثامناً، البند الثالث يتحدّث عن اعتراف الفريقَيْن بـ«تحقيق سلام وأمن دائمَيْن». هنا جانب آخر من وحي اتفاق 17 أيّار. كيف يمكن لنا الالتزام بالحديث الخطير عن سلام وأمن دائمين وهناك احتلال إسرائيلي مستمر ليس فقط لأرض فلسطين وسوريا بل أيضاً للبنان؟
تاسعاً، البند الرابع يعترف بحقّ الفريقَين في الدفاع عن النفس. لكن: متى كانت آخر مرّة دافع فيها لبنان عن نفسه بوجه عدوان إسرائيل. آخر مرّة مارس فيها لبنان حقّ الدفاع عن النفس كان في عهد الوطني إميل لحّود.ثمّ أطلق ضابط الرصاص دفاعاً عن النفس في 2010، فما كان من أميركا إلّا أن استدعت قائد الجيش، جان قهوجي، وأسمعَته كلاماً قاسياً وهدّدته بوقف كلّ المساعدات للجيش في حال أطلق أيُّ فرد رصاصةً ضدّ إسرائيل. ومنذ ذلك اليوم، لم يُطلِق أيُّ عنصر في الجيش اللّبناني رصاصة واحدة ضدّ أهداف إسرائيليّة رغم استمرار العدوان الإسرائيلي على لبنان (هذا البديل المفترض للمقاومة). هل اعترفت الحكومة الحالية بحقّ الجيش اللّبناني بالدفاع عن نفسه عندما تعرّض لعدوان من إسرائيل؟ لقد اعتدى العدوّ على مواقع للجيش حتى بعد أن وقّع هذا الاتفاق. أي إنّ إسرائيل وأميركا، وضمناً لبنان، حصروا حقّ الدفاع عن النفس بإسرائيل فقط. وبناء عليه، هي تستمرّ في تسجيل عشرات الخروقات للاتّفاق السيّئ الذِّكر.
عاشراً، تحدّد إسرائيل (في البند الخامس) للبنان من يحقّ له التواجد المسلّح في الجنوب. وهنا، هذا البند مستوحى أيضاً من 17 أيار، وكانت إسرائيل في المفاوضات تريد أن تسمّي الضباط اللّبنانيّين (وطوائفهم) من الذين يحقّ لهم التواجد في الجنوب. كيف سمح لبنان لإسرائيل بهذه الإملاءات؟
حادي عشر، يتحدّث البند السادس عن إشراف الحكومة المباشر على أيّ تصنيع أو توزيع للسلاح في لبنان. أي إنّ إسرائيل وأميركا باتتا مُشرفتَين على عمليّة صُنْع بنادق الصيد في الدولة اللّبنانيّة.
ثاني عشر، يحدّد البند السابع جدولاً أو تسلسلاً زمنيّاً لعمليّة الجيش اللّبناني لحماية أمن إسرائيل. ويعترف بصراحة أنّ ذلك سيبدأ بجنوب اللّيطاني ولن ينتهي فيه. إذ يقول «بدءاً من منطقة جنوب اللّيطاني» أي إنّ البند سيُطبّق على كلّ لبنان في مرحلة لاحقة. لقد تخلّى لبنان عن سيادته بالكامل، ليس فقط لأميركا بل لإسرائيل، في هذا الاتفاق الذي حوّل الجيش الوطني إلى حارس حدود لإسرائيل، تماماً كما كان المُراد في اتفاقيّة 17 أيار.
(يتبع)
* كاتب عربي
{@asadabukhalil} حسابه على اكس

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

محتوى موقع «الأخبار» متوفر تحت رخصة المشاع الإبداعي 4.0©2025

.يتوجب نسب المقال إلى «الأخبار» - يحظر استخدام العمل لأغراض تجارية - يُحظر أي تعديل في النص، ما لم يرد تصريح غير ذلك

صفحات التواصل الاجتماعي